فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

واختلف العلماء مَن المخاطَب والمراد بهذه الآية؟ ففي صحيح مسلم عن عائشة في قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} قالت: نزلت في ولي اليتيم الذي يقوم عليه ويُصلحه إذا كان محتاجًا جاز أن يأكل منه.
في رواية: بقدر ماله بالمعروف.
وقال بعضهم: المراد اليتيم إن كان غنيًا وَسّع عليه وأعَفّ عن ماله، وإن كان فقيرًا أنفق عليه بقدره؛ قاله ربيعة ويحيى بن سعيد.
والأوّل قول الجمهور وهو الصحيح؛ لأن اليتيم لا يخاطب بالتصرف في ماله لصغره ولسفهه. والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الأمة مجمعة على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد صيرورته بالغا، فإن الأولى والأحوط أن يشهد عليه لوجوه: أحدها: أن اليتيم إذا كان عليه بينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له، وثانيها: أن اليتيم إذا أقدم على الدعوى الكاذبة أقام الوصي الشهادة على أنه دفع ماله إليه.
ثالثها: أن تظهر أمانة الوصي وبراءة ساحته، ونظيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب» فأمره بالاشهاد لتظهر أمانته وتزول التهمة عنه، فثبت بما ذكرنا من الإجماع والمعقول أن الاحوط هو الاشهاد.
واختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه هل هو مصدق؟ وكذلك لو قال: أنفقت عليه في صغره هل هو مصدق؟ قال مالك والشافعي: لا يصدق، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصدق، واحتج الشافعي بهذه الآية فإن قوله: {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} أمر، وظاهر الأمر الوجوب، وأيضا قال الشافعي: القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم، وإنما هو مؤتمن من جهة الشرع، وطعن أبو بكر الرازي في هذا الكلام مع السفاهة الشديدة وقال: لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال لليتيم: قد دفعت إليك لأنه لم يأتمنه، وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصبي: قد دفعت مالك إليك أن لا يصدق لأنه لم يأتمنه، ويلزمه أيضا أن يوجب الضمان عليهم إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه، فيقال له: إن قولك هذا لبعيد عن معاني الفقه، أما النقض بالقاضي فبعيد، لأن القاضي حاكم فيجب إزالة التهمة عنه ليصير قضاؤه نافذا، ولولا ذلك لتمكن كل من قضى القاضي عليه بأن ينسبه إلى الكذب والميل والمداهنة، وحينئذ يحتاج القاضي إلى قاض آخر، ويلزم التسلسل، ومعلوم أن هذا المعنى غير موجود في وصي اليتيم، وأما الأب فالفرق ظاهر لوجين: أحدهما: أن شفقته أتم من شفقة الاجنبي، ولا يلزم من قلة التهمة في حق الأب قلتها في حق الأجنبي، وأما إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك فنقول: إن كان قد اعترف بأنه هلك لسبب تقصيره فههنا يلزمه الضمان، أما إذا اعترف بأنه هلك لا بتقصيره، فههنا يجب أن يقبل قوله، وإلا لصار ذلك مانعًا للناس من قبول الوصاية، فيقع الخلل في هذا المهم العظيم، فأما الإشهاد عند الرد إليه بعد البلوغ فإنه لا يفضي إلى هذه المفسدة فظهر الفرق، ومما يؤكد هذا الفرق أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية ما يدل على أن اليتيم حصل في حقه ما يوجب التهمة، وهو قوله: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ} وهذا يدل على جريان العادة بكثرة إقدام الولي على ظلم الأيتام والصبيان، وإذن دلت هذه الآية على تأكد موجبات التهمة في حق ولي اليتيم. اهـ.
قال الفخر:
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ} أشعر ذلك بأن الغرض منه رعاية جانب الصبي؛ لأنه إذا كان لا يتمكن من ادعاء دفع المال إليه إلا عند حضور الشاهد، صار ذلك مانعًا له من الظلم والبخس والنقصان، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن قوله: {فَأَشْهِدُواْ} كما أنه يجب لظاهر الايجاب، فكذلك يجب أن القرائن والمصالح تقتضي الإيجاب، ثم قال هذا الرازي، ويدل على أنه مصدق فيه بغير إشهاد، اتفاق الجميع على أنه مأمور بحفظه وإمساكه على وجه الأمانة حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه، فهو بمنزلة الودائع والمضاربات، فوجب أن يكون مصدقا على الرد كما يصدق على رد الوديعة، فيقال له: أما الفرق بين هذه الصورة وصورة الوديعة فقد ذكره الشافعي رضي الله تعالى عنه، واعتراضك على ذلك الفرق قد سبق إبطاله، وأيضًا فعادتك ترك الالتفات إلى كتاب الله لقياس ركيك تتخيله، ومثل هذا الفقه مسلم لك، ولا يجب المشاركة فيه معك وبالله التوفيق. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} أمر الله تعالى بالإشهاد تنبيهًا على التحصين وزوالا للتّهم.
وهذا الإشهاد مستَحبُّ عند طائفة من العلماء؛ فإن القول قول الوصي؛ لأنه أمين.
وقالت طائفة: هو فرض؛ وهو ظاهر الآية، وليس بأمين فيُقبل قوله، كالوكيل إذا زعم أنه قد ردّ ما دُفع إليه أو المودع، وإنما هو أمين للأب، ومتى ائتمنه الأب لا يُقبل قوله على غيره.
ألا ترى أن الوكيل لو ادّعى أنه قد دفع لزيد ما أمره به بعدالته لم يُقبل قوله إلا ببيَّنة؛ فكذلك الوصي.
ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن جبير أن هذا الإشهاد إنما هو على دفع الوصي في يُسْره ما استقرضه من مال يتيمه حالة فقره.
قال عبيدة؛ هذه الآية دليل على وجوب القضاء على من أكل؛ المعنى: فإذا اقترضتم أو أكلتم فأشهدوا إذا غرمتم.
والصحيح أن اللفظ يعم هذا وسواه.
والظاهر أن المراد إذا أنفقتم شيئًا على المُولَى عليه فأشهدوا، حتى لو وقع خلافٌ أمكن إقامة البينة؛ فإن كل مال قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بالإشهاد على دفعه؛ لقوله تعالى: {فَأَشْهِدُواْ} فإذ دفع لمن دفع إليه بغير إشهاد فلا يحتاج في دفعها لإشهاد إن كان قبضها بغير إشهاد. والله أعلم.
كما على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه والتثمير له، كذلك عليه حفظ الصبي في بدنه. فالمال يحفظه بضبطه، والبدن يحفظه بأدبه. وقد مضى هذا المعنى في البقرة.
وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن في حجري يتيمًا أآكل من ماله؟ قال: «نعم غير متأثل مالا ولا واقٍ مالك بماله». قال: يا رسول الله، أفأضر به؟ قال: «ما كنت ضاربا منه ولدك» قال ابن العربي: وإن لم يثبت مسندًا فليس يجد أحد عنه مُلْتَحدًا. اهـ.

.قال الفخر:

قال ابن الأنباري والأزهري: يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب، وأن يكون بمعنى الكافي، فمن الأول قولهم للرجل للتهديد: حسبه الله ومعناه يحاسبه الله على ما يفعل من الظلم، ونظير قولنا الحسيب بمعنى المحاسب، قولنا الشريب بمعنى المشارب، ومن الثاني قولهم: حسيبك الله أي كافيك الله.
واعلم أن هذا وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل، ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل إليه ماله، وهذا المقصود حاصل سواء فسرنا الحسيب بالمحاسب أو بالكافي.
واعلم أن الباء في قوله: {وكفى بالله} {وكفى بِرَبّكَ} [الإسراء: 65] في جميع القرآن زائدة، هكذا نقله الواحدي عن الزجاج و{حَسِيبًا} نصب على الحال أي كفى الله حال كونه محاسبا، وحال كونه كافيا. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا}.
{وَآتُوا}: أَعْطُوا، الْيَتَامَى جَمْعُ يَتِيمٍ وَهُوَ مِنَ النَّاسِ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ السِّنَّ الَّتِي يَسْتَغْنِي فِيهَا عَنْ كَفَالَتِهِ، وَمِنَ الْحَيَوَانِ مَنْ فَقَدَ أُمَّهُ صَغِيرًا؛ لِأَنَّ إِنَاثَ الْحَيَوَانِ هِيَ الَّتِي تَكْفُلُ صِغَارَهَا. وَكُلُّ مُنْفَرِدٍ يَتِيمٌ، وَمِنْهُ الدُّرَّةُ الْيَتِيمَةُ، وَلَمْ يُنْقَلْ مِنْ جَمْعِ فَعِيلٍ عَلَى فَعَالَى مَا يَعُدُّونَهُ بِهِ مِقْيَاسًا؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ لَفْظَ يَتِيمٍ قَدْ جُمِعَ هَذَا الْجَمْعَ لِأَنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ إِلَى آخِرِ مَا قَالُوا وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أَيْ لَا تَأْخُذُوا الْخَبِيثَ فَتَجْعَلُوهُ بَدَلًا مِنَ الطَّيِّبِ. يُقَالُ تَبَدَّلَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ. وَاسْتَبْدَلَهُ بِهِ إِذَا أَخَذَ الْأَوَّلَ بَدَلًا مِنَ الثَّانِي الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَاصِلًا لَهُ، أَوْ فِي شَرَفِ الْحُصُولِ وَمَظِنَّتِهِ، يُسْتَعْمَلَانِ دَائِمًا بِالتَّعَدِّي إِلَى الْمَأْخُوذِ بِأَنْفُسِهِمَا، وَإِلَى الْمَتْرُوكِ بِالْبَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [2: 61] وَأَمَّا التَّبْدِيلُ فَيُسْتَعْمَلُ بِالْوَجْهَيْنِ. وَالْخَبِيثُ مَا يُكْرَهُ رَدَاءَةً وَخَسَاسَةً مَحْسُوسًا كَانَ أَوْ مَعْقُولًا، مِنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ وَهُوَ صَدَؤُهُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَأَصْلُهُ الرَّدِيءُ الدُّخْلَةُ الْجَارِي مَجْرَى خَبَثِ الْحَدِيدِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
سَبَكْنَاهُ وَنَحْسَبُهُ لُجَيْنًا ** فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ

وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْبَاطِلَ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالْكَذِبَ فِي الْمَقَالِ، وَالْقَبِيحَ فِي الْفِعَالِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ. قَالَ: وَأَصْلُ (الطَّيِّبِ) مَا تَسْتَلِذُّهُ الْحَوَاسُّ وَمَا تَسْتَلِذُّهُ النَّفْسُ.
أَقُولُ: وَهُوَ كَمُقَابِلِهِ يُوصَفُ بِهِ الشَّخْصُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [24: 26] وَالْأَشْيَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [7: 157] وَقَوْلُهُ: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [- 7: 58] وَالْأَعْمَالُ، وَمِنْهُ الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَاهَا وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْعَمَلَ الْخَبِيثَ بِالْعَمَلِ الطَّيِّبِ أَنْ تَجْعَلُوهُ بَدَلًا مِنْهُ. وَمِنْهُ مَثَلُ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [14: 24- 26]. و(الْحُوبُ): الْإِثْمُ، وَمَصْدَرُهُ بِفَتْحِ الْحَاءِ. وَذَكَرَ الرَّاغِبُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ كَلِمَةُ حُوبٍ لِزَجْرِ الْإِبِلِ. قَالَ: وَفُلَانٌ يَتَحَوَّبُ مِنْ كَذَا أَيْ يَتَأَثَّمُ. وَقَوْلُهُمْ: أَلْحَقَ اللهُ بِهِ أَيِ الْمَسْكَنَةَ وَالْحَاجَةَ، وَحَقِيقَتُهَا هِيَ الْحَاجَةُ الَّتِي تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى ارْتِكَابِ الْإِثْمِ، وَالْحَوْبَاءُ قِيلَ: هِيَ النَّفْسُ، وَحَقِيقَتُهَا هِيَ النَّفْسُ الْمُرْتَكِبَةُ لِلْحُوبِ اهـ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَفْسِيرُهُ بِالْإِثْمِ وَبِالظُّلْمِ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَهُ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ الْإِثْمُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الْأَعْشَى:
فَإِنِّي وَمَا كَلَّفْتُمُونِي مِنْ أَمْرِكُمْ ** لِيُعْلَمَ مَنْ أَمْسَى أَعَقَّ وَأَحْوَبَا

وَحَابَ يَحُوبُ حُوبًا وَحَابًا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُمَا كَالْقَوْلِ وَالْقَالِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: أَصْلُهُ التَّحَوُّبُ وَهُوَ التَّوَجُّعُ، فَالْحُوبُ: ارْتِكَابُ مَا يُتَوَجَّعُ مِنْهُ. وتُقسِطُوا تَعْدِلُوا مِنَ الْإِقْسَاطِ، يُقَالُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ إِذَا عَدَلَ، وَيُقَالُ قَسَطَ إِذَا جَارَ. قَالَ تَعَالَى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [49: 9] وَقَالَ: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [72: 15] وَكِلَاهُمَا مِنَ الْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ، وَقَالَ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [7: 29] و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [4: 135] وَالْقِسْطُ فِي الْأَصْلِ: النَّصِيبُ بِالْعَدْلِ. وَقَالُوا: قَسَطَ فُلَانٌ بِوَزْنِ جَلَسَ إِذَا أَخَذَ قِسْطَ غَيْرِهِ، وَنَصِيبَهُ. وَقَالُوا: أَقْسَطَ إِذَا أَعْطَى غَيْرَهُ قِسْطَهُ وَنَصِيبَهُ. كَذَا قَالَ الرَّاغِبُ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْهَمْزَةَ فِي أَقْسَطَ لِلسَّلْبِ، فَقَسَطَ بِمَعْنَى: عَدَلَ، وَأَقْسَطَ بِمَعْنَى: أَزَالَ الْقِسْطَ فَلَمْ يُقِمْهُ، كَمَا يُقَالُ فِي شَكَا وَأَشْكَى، فَإِنَّ أَشْكَاهُ بِمَعْنَى أَزَالَ شَكْوَاهُ. وَقَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: كَأَنَّ الْهَمْزَةَ لِلسَّلْبِ.
{فَانْكِحُوا} مَعْنَاهُ: فَتَزَوَّجُوا، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الْعَقْدِ، وَعَلَى مَا يُقْصَدُ مِنَ الْعَقْدِ، وَلَوْ بِدُونِهِ. وَقَوْلُهُ: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} مَعْنَاهُ: ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا، فَتِلْكَ الْأَلْفَاظُ الْمُفْرَدَةُ مَعْدُولَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ الْمُكَرَّرَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لِلْجَمْعِ حَسُنَ اخْتِيَارُ الْأَلْفَاظِ الْمَعْدُولَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَدَدِ الْمُكَرَّرِ، وَكَانَتْ مِنَ الْإِيجَازِ لِيُصِيبَ كُلَّ مَنْ يُرِيدُ الْجَمْعَ مِنْ أَفْرَادِ الْمُخَاطَبِينَ ثِنْتَيْنِ فَقَطْ، أَوْ ثَلَاثًا فَقَطْ، أَوْ أَرْبَعًا فَقَطْ، وَلَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ غَايَةٌ فِي التَّعَدُّدِ بِشَرْطِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَمَا تَقُولُ لِلْجَمَاعَةِ اقْتَسِمُوا هَذَا الْمَالَ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ: دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، وَثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَأَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَلَوْ أَفْرَدْتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى. أَيْ لَوْ قُلْتَ لِلْجَمْعِ: اقْتَسِمُوا الْمَالَ الْكَثِيرَ دِرْهَمَيْنِ لَمْ يَصِحَّ الْكَلَامُ، فَإِذَا قُلْتَ: دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ دِرْهَمَيْنِ فَقَطْ لَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ.